هل ستستمر تلك الحرب إلى ما لا نهاية؟
عندما نتأمل في الصراعات العميقة التي ترسم خرائط عالمنا - كتلك الحرب الباردة الممتدة في الشرق الأوسط، المغلفة بالدين، والمدفوعة بالسياسة، والمنفذة بالوكالة - يطرح العقل سؤالاً وجودياً: هل هذا هو الوضع الدائم؟ هل كُتب على المنطقة أن تعيش في هذا الصراع "إلى ما لا نهاية"؟
إن الفلسفة، بطبيعتها، تشكك في مفهوم "اللانهاية" عند تطبيقه على الشؤون الإنسانية. فالتاريخ البشري ليس خطاً مستقيماً، بل هو نهر متقلب.
وهم الديمومة (The Illusion of Permanence)
في قلب التجربة الإنسانية يكمن "وهم الديمومة". عندما نكون في خضم حدث جلل - حرب، أو أزمة، أو حتى حقبة ازدهار - يبدو لنا وكأن هذا الوضع هو "الحقيقة" المطلقة والنهائية. شعر الرومان أن إمبراطوريتهم أبدية، وشعر الأوروبيون في "حرب المئة عام" أنها لن تنتهي، وشعر منظرو الحرب الباردة (بين أمريكا والاتحاد السوفيتي) أن العالم قد انقسم إلى الأبد.
لكن الفيلسوف اليوناني هيراقليطس علمنا الحقيقة الأساسية للوجود: "كل شيء يسيل" (Panta rhei). لا يمكنك أن تخطو في النهر نفسه مرتين. الثبات الوحيد هو التغيير.
هذه "الحرب" التي نعيشها اليوم، بكل تعقيداتها الجيوسياسية والعقائدية، هي أيضاً "نهر" يتدفق. إنها ليست كياناً ثابتاً، بل هي مجموعة من الظروف المتغيرة. إنها تعتمد على أسعار النفط، وعلى شخصيات قادة معينين، وعلى مزاج شعبي، وعلى تحالفات دولية، وعلى أولويات اقتصادية. كل هذه العوامل ليست أبدية، بل هي في حركة دائمة. أن نعتقد أن هذا التكوين الحالي سيستمر "إلى ما لا نهاية" هو تجاهل للدرس الأول في التاريخ.
الحرب كـ "صيرورة" هيجلية (Hegelian Becoming)
يقدم لنا الفيلسوف الألماني هيجل إطاراً أكثر عمقاً: الديالكتيك (الجدلية). يرى هيجل أن التاريخ يتقدم ليس بسلاسة، ولكن عبر الصراع. هناك "أطروحة" (Thesis) - وهي الوضع القائم أو النظام القديم. ثم يظهر "نقيض الأطروحة" (Antithesis) - وهو الفكرة الثورية أو القوة الجديدة التي تتحدى القديم.
الصراع العنيف الذي نراه (تلك الحرب) ليس هو "الحالة"، بل هو "العملية". إنه الصدام الضروري بين الأطروحة ونقيضها.
هذا الصدام، حسب هيجل، لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية. لماذا؟ لأن الغرض الكامل من وجوده هو أن يُدمر نفسه ليخلق شيئاً جديداً: "التركيب" (Synthesis). هذا التركيب هو نظام جديد يأخذ عناصر من القديم وعناصر من الجديد، ليصبح هو "الأطروحة" الجديدة التي ستقابل نقيضها في المستقبل.
لذلك، من منظور هيجلي، هذه الحرب ليست حالة أبدية. إنها "مخاض" مؤلم لولادة نظام إقليمي جديد. إنها بحكم تعريفها عملية مؤقتة تهدف إلى تجاوز نفسها.
إرهاق الأيديولوجيا (The Exhaustion of Ideology)
لماذا تنتهي الحروب؟ نادراً ما تنتهي بانتصار كامل أو إبادة تامة للطرف الآخر. في أغلب الأحيان، تنتهي الحروب بالإرهاق.
تنتهي الحروب عندما تصبح تكلفة استمرارها (مادياً وبشرياً) أعلى من أي مكسب متخيل. والأهم، أنها تنتهي عندما "تبرد" الأفكار التي أشعلتها. الأجيال التي بدأت الحرب، المليئة باليقين الأيديولوجي والحماسة الثورية، تخلفها أجيال جديدة ترث الدمار وتطالب بالبراغماتية: نريد وظائف، واستقراراً، وحياة طبيعية.
حرب الثلاثين عاماً في أوروبا (1618-1648) كانت حرباً دينية طائفية مُدمرة (بين الكاثوليك والبروتستانت)، بدت وكأنها ستستمر للأبد. لكنها انتهت بـ "صلح وستفاليا"، ليس لأن أحد الطرفين أقنع الآخر، ولكن لأن الجميع أُرهقوا تماماً من العقيدة، واتفقوا على نظام جديد قائم على "الدولة" ومصالحها، لا على "الحقيقة" الدينية.
الأيديولوجيات، مهما بدت قوية، لها عمر افتراضي. يحل "الإرهاق الأيديولوجي" محل "اليقين العقائدي"، وتصبح ضرورات الحياة اليومية (الاقتصاد، المناخ، التكنولوجيا) هي المحرك الجديد.
خاتمة: ما بعد "النهاية"
إذن، هل ستستمر تلك الحرب إلى ما لا نهاية؟
الإجابة الفلسفية والتاريخية هي: لا.
"اللانهاية" مفهوم لا ينتمي إلى عالم السياسة البشرية. لكن السؤال الحقيقي ليس هل ستنتهي، بل كيف ستنتهي، وماذا سيحل محلها؟
قد تنتهي بانهيار أحد الأطراف (كما انهار الاتحاد السوفيتي).
قد تنتهي بإرهاق متبادل يجبر الخصوم على "وستفاليا" إقليمية جديدة.
أو قد تنتهي بـ "تجاوزها" عبر ظهور تهديد أكبر يوحد الجميع (ككارثة مناخية تهدد وجود الخليج بأكمله، أو قوة عظمى جديدة تفرض نظاماً جديداً).
هذه الحرب، ككل الحروب التي سبقتها، هي مجرد فصل في قصة أطول. ووظيفتنا ليست التحديق في هذا الفصل حتى نعتقد أنه الرواية كلها، بل أن نحاول قراءة الصفحة التالية.
Commentaires
Enregistrer un commentaire