هل بيع حصص في أصول الدولة يهدّد "السلطوية" وقدرتها على الشمولية؟



سؤال يمس صلب علاقة الدولة بالاقتصاد وبمراكز القوة داخل المجتمع. والجواب ليس نعم أو لا بشكل مطلق، بل يعتمد على **كيف تُدار هذه الصفقات**، وما **شكل الدولة نفسها**.

---

## 1. الدولة السلطوية لا تقوم على امتلاك الأصول

الفهم الشائع يربط السلطوية بامتلاك الدولة للمصانع والشركات والفنادق. لكن هذا خلط بين **الاقتصاد الموجّه** و**السلطوية السياسية**.

**الدولة السلطوية تقوم على:**

1. **التحكم في القرار** السياسي والاستراتيجي
2. **التحكم في المعلومات** والسرديات العامة
3. **التحكم في القواعد الناظمة** (القانون واللوائح والتراخيص)
4. **القدرة على الضبط الأمني والبيروقراطي**

أما امتلاك المصانع والفنادق والشركات، فليس شرطًا لسلطوية الدولة.

**أمثلة واضحة:**

- **الصين** (في عصر دِينغ وما بعده) سمحت بتوسع هائل في الملكية الخاصة، لكنها احتفظت بمفاصل القرار السياسي والاستراتيجي
- **سنغافورة** دولة مركزية قوية لكن القطاع الخاص واسع ومفتوح عالميًا
- **روسيا** في عهد بوتين سمحت بوجود أوليغارشية اقتصادية، لكن تحت سقف سياسي محكم

**الخلاصة الأولى:**
> السلطوية ليست في امتلاك الدولة للأصول، بل في قدرتها على التحكم في **شروط اللعبة**.

---

## 2. متى يُضعف البيع من قدرة الدولة على الشمولية؟

البيع يصبح خطرًا **إذا تم بالشكل التالي:**

- بيع أصول **دون الاحتفاظ بحق الإدارة**
- **دون نسبة حاكمة** في مجلس الإدارة
- **دون صلاحيات رقابية** أو تنظيمية
- **دون تحديد هوية المستثمر** وأهدافه الاستراتيجية
- في **قطاعات سيادية** حساسة

في هذه الحالة: نعم، هذا يؤدي إلى **تآكل تدريجي لسيطرة الدولة** على الاقتصاد.

---

**لكن إذا تمت الصفقات بالشكل الآتي:**

- الدولة تحتفظ بـ**الحصة الذهبية** (Golden Share)
- أو بـ**سلطة التعيين** في مجلس الإدارة
- أو بـ**التحكم في التسعير الاستراتيجي**
- أو في **قطاعات محددة**: الدفاع، الغذاء، الطاقة، النقد
- أو عبر **تنظيم صارم** للقطاع بعد البيع

**فوقتها:**
> حتى لو باعَت الدولة أصولًا، فإنها لم تفقد "سلطتها الشاملة"، لأنها ما زالت تملك **مركز توجيه الاقتصاد**.

---

## 3. خطورة البيع تأتي من **القطاعات** وليس من البيع نفسه

### القطاعات التي لا ينبغي للدولة أن تفقد السيطرة عليها:

1. **العملة والائتمان** (البنوك المركزية + السياسة النقدية)
2. **شبكات النقل السيادي** (الموانئ الاستراتيجية + الممرات البحرية + اللوجستيات الحكومية)
3. **السلاح، الاتصالات، والمعلومات**
4. **الأمن الغذائي الاستراتيجي** (القمح، المياه، الطاقة، الأسمدة)

### القطاعات التي يمكن فتحها دون ضرر استراتيجي:

- السياحة والفنادق
- السلع الاستهلاكية
- مستلزمات البناء
- تجارة التجزئة
- العقارات المدارة (غير الاستراتيجية)

**الخلاصة الثالثة:**
> خطورة البيع = تتحدد **بموضوع الصفقة** وليس بوجود صفقة بيع في حد ذاته.

---

## 4. هل ما يحدث في مصر الآن يضعف السلطوية أم يعزّزها؟

حتى الآن (بناءً على نمط الصفقات المعلنة):

**الدولة لم تتخلّ عن:**
- الجيش
- الأمن
- القضاء
- الإعلام المركزي
- النقد (البنك المركزي)
- الطاقة (الكهرباء والغاز)

→ **هذه هي "اللبنة السلطوية".**

---

**الصفقات تتم غالبًا في:**
- بنوك تجارية
- موانئ تشغيل (لا ملك)
- فنادق وإدارة ضيافة
- شركات غذاء وتوزيع
- أسمدة ومواد استهلاكية

**هذا يشير إلى:**
> الدولة لا تتخلّى عن **"السلطة"**، بل عن **"الملكية المباشرة"** بهدف الحصول على سيولة وتمويل.

بمعنى آخر:
- الدولة **تبقى مسيطرة**
- لكنها **تسمح برأس مال خارجي** لتدوير العجلة الاقتصادية

وهذا نموذج **رأسمالية الدولة الموجّهة**، وليس الخصخصة الليبرالية المفتوحة.

---

## 5. هل هناك خطر؟ نعم، في حالة واحدة فقط

**إذا:**

أصبحت الدولة **تعتمد على الاستثمارات الخارجية** أكثر من اعتمادها على:
- **التحصيل الضريبي**
- **الإنتاج المحلي**
- **قاعدتها الاقتصادية الذاتية**

**حينها:**
> القرار الاقتصادي يبدأ بالتجهّم، ثم **يتبعه القرار السياسي**.

**يعني:**
- الخطر ليس **البيع**
- الخطر هو **الاعتماد**

عندما يصبح المستثمر الخارجي قادرًا على **تهديد استقرار الدولة** بسحب استثماراته، أو بالضغط السياسي عبر القنوات المالية، حينها تنتقل السلطة الفعلية من الدولة إلى **رأس المال**.

---

## الخلاصة النهائية

| العامل | التأثير على السلطوية |
|--------|---------------------|
| **البيع الجزئي المنضبط** | لا يهدد الدولة السلطوية |
| **البيع بدون شروط تنظيمية** | يضعف الشمولية تدريجيًا |
| **الاحتفاظ بمفاصل القرار** | يحافظ على السلطوية |
| **الاعتماد على رأس المال الخارجي** | يُضعف السيادة تدريجيًا |

---

**الدولة السلطوية تظل سلطوية إذا حافظت على:**

1. **مفاصل القرار** السياسي والاستراتيجي
2. **النظام الإداري** والبيروقراطي
3. **الجهاز الأمني** والقضائي
4. **السياسة النقدية** والمالية

**أما رأس المال الخارجي:**
> يمكن أن يخدم الدولة أو يبتلعها… **حسب من يقود من**.

---

## قاعدة ذهبية في الاقتصاد السياسي:

**"من يملك المال لا يحكم بالضرورة، لكن من يحكم يجب أن يملك القدرة على تنظيم المال."**

الدولة السلطوية الذكية:
- تجذب رأس المال
- لكن تضع له **الإطار**
- وتحتفظ بـ**حق الطرد** إذا لزم الأمر

الدولة الضعيفة:
- تبيع لتسدّ العجز
- ثم تفقد القدرة على **التفاوض**
- وتصبح **رهينة** لمستثمريها

---

**النتيجة:**

ما نشهده اليوم في مصر ليس **انهيارًا للسلطوية**، بل هو **إعادة ترتيب للنموذج الاقتصادي** ضمن نفس الإطار السلطوي.

السؤال الحقيقي ليس: هل تبيع الدولة؟

بل: **هل تحتفظ بالقدرة على وضع الشروط؟**

وحتى الآن، الإجابة: **نعم**.

Commentaires