جدلية السيّد والعبد: من يحكم الشرق الأوسط فعلاً؟



لو تأمّلت حروب الشرق الأوسط من عُلوّ طائرة — بعيدًا عن دويّ الرصاص وصرخات الجرحى — لرأيت مشهدًا غريبًا يكاد يكون سرياليًّا:  
الذين يحملون البنادق ويُسفكون الدماء هم الأقلّ تأثيرًا في مصير الصراع.  
أما الذين يجلسون خلف مكاتب مكيفة، لا يرفعون سلاحًا ولا يهمسون بدعاء حرب، فهم من يكتبون النهاية… ويقبضون الثمن.

هنا، لا ينفع التحليل السياسي التقليدي.  
هنا، نحتاج إلى فلسفة .
 
الاعتراف أولًا، ثم السلطة.

في قلب كل صراع، وفق الفيلسوف هيجل، لا توجد موارد أو حدود، بل  صراع على الاعتراف.  
كل طرف يريد أن يقول للآخر: "أنا موجود. أنا من يُحدّد المعنى."  
لكن لأن الإنسان يخاف الموت، ينتهي الصراع بسيّدٍ يفرض إرادته، وعبدٍ يخضع لبقاء حياته.

لكن الشرق الأوسط لا يلعب وفق القواعد البسيطة.  
هنا، السيّد نفسه عبدٌ لسيّدٍ أكبر.  
والعبد يحلم بأن يصبح سيّدًا، حتى لو كان ذلك على أنقاض وطنه.  
وثمة عبدٌ ثالث لا يدري أنه عبد، يظن أن رصاصه مقدّس، وأن دمه وقودٌ للجنّة.

 السيّد الحقيقي لا يحمل سلاحًا

السيّد اليوم ليس من يُطلق النار، بل من يصنع السردية.  
هو من يقرّر متى تكون الحرب "مقدّسة"، ومتى يكون القتال "دفاعًا عن الهوية".  
هو من يُقنع الشعوب أن الموت في سبيل قضيةٍ ما هو أعلى درجات الشرف… بينما هو ذاته لم يرَ جبهة قط.

وهنا يدخل فوكو ليذكّرنا:  
> "السلطة لا تُمارَس بالقمع وحده، بل بالخطاب."  

من يملك تعريف "الخير والشر"، يملك القلوب والعقول.  
ومن يملك الإعلام، يملك الأبطال والأشرار، القديسين والمجرمين… كل ذلك من دون أن يغادر كرسيّه.

العبد ليس من يُقتَل، بل من يُقنَع بأنه يختار الموت

العبد الحقيقي ليس الفقير، ولا الضعيف، ولا حتى الجندي المُجند.  
العبد هو : من يتبنّى سردية غيره.
هو من يموت في حرب لا يفهم أهدافها،  
يرفع راية لم يخترها،  
يهتف باسم قضية كُتبت في غرف مغلقة بعيدًا عن عينه.

العبودية اليوم ليست في الأصفاد، بل في الاستسلام الفكري.  
الجسد قد يكون حرًّا، لكن العقل مستعبد.

 عبد العبد: أخطر طبقة في الصراع

ثم تأتي الطبقة الأشدّ خطورة: عبد العبد.  
جماعات مسلحة، ميليشيات دينية، لجان عقائدية…  
كلها تظن أنها تُحارب من أجل "الدين" أو "الأمة"،  
لكنها في الحقيقة **تُقاتل ليبقى السيّد الحقيقي خارج دائرة النار.

هم يموتون بحماسة الإيمان،  
وهو يربح ببرودة الحسابات.  
هم يُسمّون أنفسهم "حماة الأمة"،  
وهو يُسمّيهم "أصولًا قابلة للاستهلاك".

ماركس يسأل: من يدفع الفاتورة؟.

ماركس لا يُضيّع وقته في الشعارات.  
هو ينظر مباشرة إلى **النفط، الغاز، الممرات البحرية، عقود إعادة الإعمار.  
كل هذه الحروب الطائفية، كل هذه الخطابات الدينية… ليست سوى واجهة تسويقية.

الدين؟ غلاف رخيص.  
الحرب المقدّسة؟ إعلان تجنيد مجاني.  
أما الحقيقة؟  
> الشعوب تدفع الفاتورة… والشركات تستلم الشيك.

غرامشي: الهيمنة التي لا تُرى.

لكن السيطرة الحقيقية، وفق غرامشي، لا تحتاج دبابات.  
هي أن تجعل الإنسان يطيع وهو يظن أن الطاعة اختياره.  
أن يهتف، يبكي، يلعن، يُقدّس…  
كل ذلك وهو مقتنع تمامًا بأنه حرّ.

في هذه اللحظة، يصبح القاتل ضحية،  
ويصبح التاجر بالدم "صانع سلام"،  
ويصفّق العالم للمشهد باسم "الحوار بين الحضارة التحرير يبدأ من العقل.

قبل أن تحلم بتحرير الأرض، اسأل نفسك سؤالاً واحدًا:  
من كتب السردية التي تؤمن بها؟

إذا لم تكن إجابتك نابعة من وعيك، فأنت عبد…  
حتى لو حملت سيفًا من ذهب.

الوعي لا يمنع الحروب،  
لكنه يمنعك من أن تكون وقودها.

Commentaires