تاريخ العرب كوكلاء: صراع الهيمنة الاقتصادية والعسكرية

 

تاريخ العرب كوكلاء: صراع الهيمنة الاقتصادية والعسكرية

مقدمة: الاقتصاد محرك الصراع الإمبراطوري

في قلب فلسفة الصراع البشري، يقف العامل الاقتصادي كمحرك أساسي للتنافس بين القوى العظمى عبر التاريخ. وقد جسّد الصراع البيزنطي الفارسي على شبه الجزيرة العربية نموذجاً كلاسيكياً لما أسماه كارل ماركس "الصراع على الموارد"، حيث تحولت المنطقة العربية إلى ساحة تنافس اقتصادي غير مباشر بين إمبراطوريتين عظميين امتد لأربعة قرون كاملة من القرن الثالث حتى السابع الميلادي.aletihad

صراع الهيمنة الاقتصادية والعسكرية

كان الصراع بين بيزنطة وفارس في جوهره صراعاً على الهيمنة والنفوذ، وكانت السيطرة على طرق التجارة الدولية محوراً أساسياً لهذا الصراع. فالخليج العربي وشبه الجزيرة العربية مثّلا بوابة تنفذ بصاحبها إلى أغلب المواقع الحضارية المزدهرة في العالم القديم، خاصة شبه القارة الهندية والصين وأفريقيا.aden+1

كانت شبه الجزيرة العربية، بموقعها الاستراتيجي الذي يربط بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط، ساحة تنافس اقتصادي غير مباشر بين الإمبراطوريتين. تحكمت الإمبراطورية الساسانية بطريق تجارة الحرير الصيني المتجه إلى بيزنطة، والذي كان يمر عبر أراضيها ومناطق نفوذها، وفرضت على البيزنطيين رسوماً جمركية باهظة. بل إن فارس كانت تقطع طريق الحرير الصيني المتجه إلى بيزنطة، لاسيما عندما كانت تتوتر العلاقات وتنشب الحروب بين الإمبراطوريتين، مما كان يؤدي إلى توقف تدفق الحرير الصيني وبضائع الشرق الأقصى إلى بيزنطة، ومن ثم حرمان الخزانة البيزنطية من مورد مالي كبير وتدهور الاقتصاد البيزنطي.aden

الصراع على اليمن وطريق البحر الأحمر

في الربع الأول من القرن السادس الميلادي، احتدم الصراع بين القوتين العظميين من أجل السيطرة على السواحل اليمنية وطريق البحر الأحمر وطريق القوافل التجارية البري. سعى الفرس للسيطرة على الطرق البحرية عبر الخليج العربي واليمن، بينما سعى البيزنطيون لتأمين الطرق البرية عبر الشام وشمال الجزيرة. كانت بيزنطة تستورد الحرير بكميات كبيرة لاحتياجه في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وحينما قطعت فارس طريق الحرير البري الشمالي، لم يعد أمام بيزنطة سوى الحصول على الحرير بواسطة طريق البحر الأحمر والموانئ اليمنية.aden

أرادت فارس أن تسيطر على طريق البحر الأحمر وسواحل اليمن لتحكم الحصار على بيزنطة وتحرمها من بضائع الشرق الأقصى، لاسيما أن طريق الخليج العربي كان تحت السيطرة الفارسية بالكامل. سارعت بيزنطة إلى اتخاذ التدابير اللازمة لغزو اليمن، فوجدت في الصراع الديني الدائر في اليمن خلال هذه الفترة فرصة مناسبة، بذريعة حماية المسيحيين في اليمن الذين بطش بهم الملك الحميري يوسف ذو نواس، وتم التنسيق بين بيزنطة وحليفتها الحبشة (مملكة أكسوم) لإعداد حملة حبشية لغزو اليمن.aletihad+1

الممالك العربية الوكيلة

لتأمين حدودهما ومصالحهما التجارية، اتبعت كلتا الإمبراطوريتين استراتيجية إقامة "دول حاجزة" أو ممالك عربية وكيلة على أطراف الصحراء. ارتبطت مملكة الغساسنة في الشام بالبيزنطيين، بينما كانت مملكة المناذرة في الحيرة (العراق) حليفة للفرس.wikipedia+2

كانت هذه الممالك العربية تتلقى الدعم المالي والعسكري من رعاتها الإمبراطوريين لخوض حروب بالوكالة ضد بعضها البعض، مما أدى إلى استنزاف القوة العربية وإبقائها منقسمة ومشتتة. كانت هذه الحروب المستمرة تخدم مصالح القوى العظمى من خلال حماية حدودها من غارات البدو وتأمين طرق قوافلها التجارية، فضلاً عن إشغال القبائل العربية في صراعات داخلية تمنعها من تهديد الإمبراطوريات نفسها.journal.damascusuniversity+1

شهدت بلاد العرب في هذه الفترة أحداثاً سياسية خطيرة، حيث دخلت الإمبراطوريتان العظميان في صراع مرير من أجل السيطرة على الطرق التجارية، ومنها الطريق القادم من المحيط الهندي عبر الخليج العربي إلى الفرات فبادية الشام، وطريق البحر الأحمر المتجه من الجنوب نحو مصر وفلسطين، وطريق القوافل البري عبر الأراضي اليمنية.aden

فراغ القوة عشية الإسلام

بلغ الصراع البيزنطي الساساني ذروته في حرب مدمرة استمرت من عام 602 إلى 628 ميلادي. كانت هذه الحرب، التي تنبأ القرآن الكريم بنتيجتها في سورة الروم، كارثية على الطرفين. بدأت الحرب بسلسلة من الانتصارات الساسانية الساحقة، حيث احتلت الجيوش الفارسية سوريا ومصر والأناضول، ووصلت إلى أسوار القسطنطينية نفسها.arz.wikipedia+1

على الرغم من انتصار البيزنطيين في النهاية تحت قيادة الإمبراطور هرقل الذي استعاد جميع الأراضي المحتلة واسترد الصليب الحقيقي إلى القدس عام 629 ميلادي، إلا أن عقوداً من القتال أدت إلى إنهاك الإمبراطوريتين عسكرياً واقتصادياً بشكل كامل. استُنزفت جيوشهما، وأُفرغت خزائنهما، وانتشرت الفوضى السياسية الداخلية، خاصة في الإمبراطورية الساسانية التي شهدت سلسلة من الانقلابات بعد هزيمتها.wikipedia+1

أضف إلى ذلك أن طاعون جستنيان (الطاعون الدبلي) الذي تفشى في القرنين السادس والسابع ترك الإمبراطوريتين منهكتين وضعيفتين في مواجهة الظهور المفاجئ للمسلمين. ووفق ما ذكره المؤرخ هوارد جونستون، فإن التوسع الإسلامي كان أشبه بـ"تسونامي بشري" لم تكن الإمبراطوريات المنهكة قادرة على مواجهته.arz.wikipedia+1

الانهيار والفتوحات الإسلامية

هذا الانهيار المتبادل خلق فراغاً هائلاً في السلطة في منطقة الشرق الأوسط. فعندما بدأت الفتوحات الإسلامية بالانطلاق من شبه الجزيرة العربية بعد سنوات قليلة، واجهت إمبراطوريتين كانتا ظلاً لما كانتا عليه في السابق. وحسب المؤرخ جورج ليسكا، فإن "الصراع البيزنطي الفارسي الذي طال أمده دون داع فتح الطريق أمام الإسلام".derasaty+2

في أواخر عشرينيات القرن السابع، نجح النبي محمد صلى الله عليه وسلم في توحيد جزء كبير من شبه الجزيرة العربية تحت راية الإسلام. وبعد وفاته عام 632 م، خلفه أبو بكر الصديق الذي كان له سيطرة بلا منازع على شبه الجزيرة العربية كلها بعد نجاح حروب الردة، مما أدى إلى توطيد دعائم دولة إسلامية قوية.wikipedia+1

إن حالة الضعف الشديد التي كان عليها الفرس والروم كانت عاملاً حاسماً سمح للجيوش الإسلامية بتحقيق انتصارات سريعة ومذهلة. لم تُتح لأي إمبراطورية فرصة للتعافي، حيث وجدتا نفسيهما في غضون سنوات قليلة في صراع مع قوة جديدة موحدة. أدت هذه الظروف في النهاية إلى سقوط الإمبراطورية الساسانية بأكملها، وخسارة البيزنطيين لمقاطعاتهم الغنية في الشام ومصر وشمال أفريقيا.derasaty+2

خاتمة: دروس التاريخ

يقدم هذا الفصل من التاريخ درساً عميقاً في فلسفة الصراع البشري: فالصراعات المطولة على الهيمنة الاقتصادية غالباً ما تؤدي إلى استنزاف القوى المتصارعة وخلق فراغ يملؤه طرف ثالث. العرب الذين كانوا مجرد وكلاء في صراع الإمبراطوريات، تحولوا بعد التوحيد تحت راية الإسلام إلى قوة عالمية أسقطت إحدى تلك الإمبراطوريات بالكامل وقلصت الأخرى إلى نصف حجمها. إن التاريخ يُثبت أن القوة الحقيقية لا تكمن فقط في الموارد الاقتصادية أو الجيوش الجرارة، بل في الوحدة والعقيدة التي تجمع الشعوب وتمنحها هدفاً مشتركاً يتجاوز مجرد المصالح المادية.

  1. https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%88%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%B2%D9%86%D8%B7%D9%8A%D8%A9
  2. https://arz.wikipedia.org/wiki/%D8%AD%D8%B1%D9%88%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8_%D9%88_%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%B2%D9%86%D8%B7%D9%8A%D9%8A%D9%86
  3. https://books.google.com/books/about/%D9%81%D8%A7%D8%B1%D8%B3_%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%B2%D9%86%D8%B7%D8%A9.html?id=zu6xDwAAQBAJ
  4. https://worldwarsi.wordpress.com/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%88%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%88%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%B2%D9%86%D8%B7%D9%8A%D8%A9/
  5. https://aden.center/articles/2499
  6. https://www.aletihad.ae/article/68668/2013/%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A8%D9%86-%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D9%8A-%D9%8A%D8%AA%D8%AA%D8%A8%D8%B9-%D8%AD%D9%82%D8%A7%D8%A6%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%B1%D8%B3%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%B2%D9%86%D8%B7%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D9%8A%D8%AC
  7. https://derasaty.net/question/3217/%D9%86%D8%AA%D8%A7%D8%A6%D8%AC_%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9_%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%B1%D8%B3%D9%8A_%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%B2%D9%86%D8%B7%D9%8A%D9%8A%D9%86_%D9%81%D9%8A_%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D9%86_%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A7%D8%A8%D8%B9_%D9%85%D9%8A%D9%84%D8%A7
  8. https://theses-algerie.com/3626455140208915/memoire-de-magister/universite-abou-el-kacem-saadallah---alger-2/%D8%A8%D9%8A%D8%B2%D9%86%D8%B7%D8%A9-%D9%88%D8%B4%D8%A8%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D9%84%D8%AB-%D9%85%D9%8A%D9%84%D8%A7%D8%AF%D9%8A-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A7%D8%AF%D8%B3-%D9%85%D9%8A%D9%84%D8%A7%D8%AF%D9%8A
  9. https://www.alukah.net/culture/0/9887/%D8%A8%D9%8A%D8%B2%D9%86%D8%B7%D8%A9-%D9%88%D9%81%D8%A7%D8%B1%D8%B3-2-4/
  10. https://journal.damascusuniversity.edu.sy/index.php/hisj/article/view/13241/3343

Commentaires