مهندس حرب أكتوبر
في التاسع عشر من فبراير عام ألف وتسعمائة وأربعة وسبعين، وفي لحظة كان التاريخ يخط فيها أمجادًا، ووطنٌ يكرم أبناءه، حدث ما لا يمكن أن يصدقه عقل، ولا أن يتحمله قلب. فتح التلفاز، لا ليرى وجهه بين المكرمين، بل ليرى غيابه المدوّي، غياب من كان مهندس النصر، ورئيس أركان حرب أكتوبر، الفريق سعد الشاذلي. أي قسوة تلك التي تجعل بطلًا يُقصى عن مشهد تكريمه، وكأن التاريخ قد قرر أن يمحو اسمه من صفحاته المضيئة؟لم تكن تلك اللحظة هي الوحيدة التي عصفت بقلب الشاذلي، فلقد ذاق مرارة النفي والتشرد في الجزائر لسنوات طوال، وعانى من قسوة السجن عند عودته، وتجرع كأس التجاهل لأكثر من عقدين من الزمان، وكأن دوره البطولي في حرب أكتوبر لم يكن سوى سراب. لكنه، بمرارة لم يصفها إلا من عاشها، قال إن تلك اللحظة، لحظة رؤية رفاق دربه يتوجون بأكاليل المجد وهو يقف في الظل، كانت أقسى وأصعب لحظات حياته على الإطلاق. شريط حياته، بكل ما فيه من مجد وألم، مر أمامه كطيف حزين، يروي قصة بطلٍ لم ينل حقه من التكريم.من رحم قرية بسيطة في الغربية، وُلد طفلٌ حُمل اسم زعيم الأمة، سعد زغلول. لم يكن اسمهسعد الدين، كما يظن الكثيرون، بل سعد، اسمٌ بسيط حمل في طياته قدرًا عظيمًا. نشأ على حكايات جده، الضابط الشجاع الذي حارب الإنجليز في التل الكبير، فتشربت روحه حب الوطن والتضحية. ورغم أن طريقه بدأ في كلية الزراعة، إلا أن نداء الواجب كان أقوى، فتركها بعد عام واحد ليلتحق بالكلية الحربية، وهو لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، أصغر طالب في دفعته، وكأنه على موعد مع المجد المبكر.تخرج سعد الشاذلي من سلاح المشاة برتبة ملازم، وانضم إلى الحرس الملكي، لا لشيء إلا لكفاءته وتفوقه الذي لا يجارى. وحينما اشتعلت نيران حرب 1948، لم ينتظر تكليفًا، بل تطوع بقلبه وروحه ليدافع عن أرض الأجداد، وعاش هناك أيامًا عصيبة، نجا فيها من الموت مرات ومرات، وكأن القدر كان يدخر له دورًا أعظم. وحينما بزغ فجر ثورة يوليو المجيدة، كان من أوائل الضباط الذين آمنوا بها وساندوها، فكانت روحه الثورية تتوق إلى التغيير.في عام 1954، جاءه التكليف الذي سيغير مجرى حياته، تكليف من الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، بتشكيل سلاح المظلات، ليصبح أول قائد لفرقة المظلات في تاريخ مصر. قاد الكتيبة 75 مظلات في مواجهة العدوان الثلاثي، وكان كالصخرة التي تتحطم عليها أمواج الغدر. وحينما حلت نكسة 1967، تلك اللحظة المظلمة في تاريخ الأمة، كان الشاذلي في قلب المعركة، يقود مجموعة الشاذلي من القوات الخاصة في سيناء، وكان آخر القادة انسحابًا، والوحيد الذي عاد بأكثر من 80% من قواته ومعداته، وكأن القدر أراد أن يكتب اسمه بأحرف من نور في سجلات الانسحاب العسكري العظيم، الذي يُعد من أعظم عمليات الانسحاب في التاريخ العسكري بأسره. تكريمًا لبطولته، عُين قائدًا للقوات الخاصة، في سابقة لم تحدث من قبل، حيث توحدت قيادة الصاعقة والمظلات تحت لوائه، ليصبح أسطورة حية في تاريخ الجيش المصري.وبعد أن أتم مهمته في قيادة القوات الخاصة، تولى قيادة منطقة البحر الأحمر العسكرية، وهناك سطر بطولات أخرى، منها منعه لاحتلال جزيرة شدوان، وكأنه حارس أمين على كل شبر من تراب الوطن. وفجأة، غاب الزعيم عبد الناصر، وتولى الرئيس السادات مقاليد الحكم، وبعد فترة، جاءت حركة التصحيح، واعتقل عدد كبير من القيادات، وكان منهم وزير الدفاع الفريق محمد فوزي. وفي خضم هذا التغيير، عُين الفريق محمد صادق قائدًا للجيش، والفريق سعد الشاذلي رئيسًا للأركان، ومن هنا، بدأت الأسطورة الحقيقية لواحد من أعظم جنرالات العصر الحديث.منذ اللحظة الأولى، انكب الشاذلي على وضع خطة الحرب، ينسج خيوط النصر تفصيلة تفصيلة. كيف ستعبر القوات قناة السويس؟ كيف سيدمر خط بارليف الأسطوري؟ وكيف ستعبر أولى القوات دون خسائر؟ أسئلة كانت تؤرق القادة، لكن الشاذلي، بعقليته الفذة، والمجموعة التي عملت معه، وضعوا خطة عبقرية للحرب. حل الشاذلي 132 مشكلة كانت تقف حجر عثرة أمام عملية العبور والحرب بشكل عام، وكأنه يزيل الجبال من طريق النصر. ولم يكتفِ بذلك، بل وضع ما أسماهالتوجيه 41، كتيبات عسكرية كتبها بنفسه، يحدد فيها لكل جندي وضابط في القوات المسلحة دوره بدقة متناهية، من ربط رباط الحذاء إلى كيفية التصرف في الأسر. يجمع المحللون العسكريون على أن هذا التوجيه كان مفتاح النصر، وكأنه نبوءة تتحقق على أرض المعركة. باختصار، كان الفريق الشاذلي هو المهندس الحقيقي لحرب أكتوبر بكل تفاصيلها، وبعد أن عبرت القوات ونفذت خطته بنجاح باهر، كان أول قائد عسكري يذهب إلى جبهة القتال بعد العبور في الثامن من أكتوبر عام 1973، ليشهد بعينيه ثمار جهده وعيه وعمله الدقيق وتخطيطه المحكم.ولكن، في خضم نشوة النصر، بدأت سحب الخلاف تتلبد في سماء العلاقة بين الرئيس السادات والفريق الشاذلي، وكأن القدر يأبى أن يكتمل الفرح. الخلاف الأول، كان حول طلب سوريا من مصر زيادة الضغط على قوات العدو في جبهة قناة السويس لتخفيف الضغط على جبهة الجولان. طلب السادات من وزير الدفاع، المشير أحمد إسماعيل، تطوير الهجوم شرقًا. هنا، وقف الشاذلي كالجبل الأشم، معارضًا الفكرة تمامًا، محذرًا بأن أي تحرك بعيد عن مظلة الدفاع الجوي يعني تقديم قواتنا هدية لطيران العدو. لم يكن وحده في هذا الموقف، بل شاركه الرأي اللواء سعد مأمون قائد الجيش الثاني الميداني، واللواء عبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث الميداني. لكن السادات، وكأنه يرى ما لا يراه الآخرون، أصر على تطوير الهجوم. وماذا كانت النتيجة؟ قواتنا، بلا حماية جوية، تعرضت لضربات قوية، واضطرت للعودة إلى مواقعها، بعد أن خسرنا 250 دبابة في ساعات معدودة، وكأنها ضريبة باهظة لقرار لم يحسب عواقبه.ثم جاءت أزمة الثغرة، لتزيد الطين بلة، وتعمق الخلاف بين السادات والشاذلي حول كيفية التعامل معها. قدم الشاذلي خطة جريئة لمواجهة الثغرة، تقوم على سحب القوات والمناورة بها غرب القناة، ولكن السادات والمشير أحمد إسماعيل رفضا أي خطة تقوم على الانسحاب، خوفًا من وصمة العار التي لحقت بانسحاب القوات من سيناء في نكسة 67. وتطورت الأمور من سيء إلى أسوأ، وزادت الوشايات، خاصة وأن الشاذلي كان على خصومة قديمة مع المشير أحمد إسماعيل. وفي النهاية، استبعد الرئيس السادات الفريق الشاذلي بشكل غير رسمي من منصب رئيس الأركان، وكلف المشير الجمسي بالمنصب، وفي الثاني عشر من ديسمبر عام 1973، أنهى السادات خدمة الفريق الشاذلي، وعينه سفيرًا بوزارة الخارجية، وكأنها محاولة لدفن بطل حي في غياهب الدبلوماسية.لكن الشاذلي، الذي لم يعرف الانكسار في ساحات الوغى، رفض أن ينكسر أمام هذا القرار. قالها بملء فيه، وبشجاعة لم تفارقه: "لو الرئيس عايز يعاقبني يعاقبني جوا بلدي... ولو دي مكافأة من حقي أرفضها." ظل على موقفه، كالصخرة التي لا تلين، حتى قابله السادات وأقنعه بالمنصب، زاعمًا حاجته لرجل بخبرته العسكرية الكبيرة في لندن لجلب الأسلحة المتطورة، وأن وظيفته الأساسية هي تسليح الجيش المصري، وأن السفيرية مجرد أمر ثانوي. صدق الشاذلي، أو هكذا أراد أن يصدق، فقبل المنصب من أجل تقوية الجيش بالسلاح الحديث، بعد أن أغدق عليه السادات الثناء والإشادة بدوره. لكنه اكتشف لاحقًا، وبمرارة، أن كل ما قاله السادات كان مجرد خدعة، وكأن القدر كان يدخر له خيانة أخرى، أشد قسوة من كل ما مر به.في عام 1978، انفجرت قنبلة مدوية، حينما كتب الرئيس السادات مذكراته "البحث عن الذات"، وفيها، وبكل قسوة، اتهم الفريق الشاذلي بالتخاذل، ووصفه بالفريق المنهار. أي إهانة تلك التي يوجهها قائد لمهندس نصره؟ لكن الشاذلي، الذي لم يكن ليصمت على الباطل، رد الصاع صاعين، وكتب هو الآخر مذكراته "حرب أكتوبر"، وفضح فيها قرارات السادات الخاطئة، التي اتخذها بعكس جميع نصائح العسكريين، مؤكدًا أن تدخله المستمر في الخطط العسكرية كان السبب الرئيسي في كارثة الثغرة. ولم يكتفِ بذلك، بل قدم بلاغًا للنائب العام، اتهم فيه الرئيس السادات بإساءة استعمال السلطات، وكأنه يرفع راية التحدي في وجه الظلم.وازدادت الخلافات اشتعالًا مع اتفاقية كامب ديفيد، وهاجم الشاذلي الرئيس السادات علنًا وبشكل كبير، واستقال من منصبه كسفير لمصر في البرتغال، وسافر إلى الجزائر كلاجئ سياسي، وكأنه يفضل مرارة النفي على مرارة التنازل عن المبادئ. ومن هناك، استمر هجومه على الرئيس، وحينما وقع حادث المنصة، أعلن مباركته للعملية، ووصف من قاموا بها بأنهم ضباط مصريون شجعان، وكأنه يرى فيهم روح التمرد التي تسكنه. في عام 1983، حوكم الفريق الشاذلي غيابيًا بتهمة إفشاء أسرار عسكرية بسبب كتابه "حرب أكتوبر"، وحُكم عليه بالسجن ثلاث سنوات مع الأشغال الشاقة، ووُضعت أملاكه تحت الحراسة، وكأن الوطن الذي ضحى من أجله، يلفظه ويصادره.وفي الخامس عشر من مارس عام 1992، وبعد أربعة عشر عامًا قضاها في الجزائر، عاد الشاذلي إلى مصر، وكأنه يعود إلى سجن كبير. فما أن وطأت قدماه أرض المطار، حتى أُلقي القبض عليه، ورُحل إلى السجن الحربي ليقضي مدة سجنه، وكأن القدر يأبى إلا أن يذيقه مرارة الظلم حتى النهاية. في السجن، رفض أن يكتب خطاب التماس للرئيس يطلب فيه العفو، وظل محبوسًا حتى أكتوبر 1993، حينما خرج بعفو عام، وكأنه يفضل أن يكون حرًا في سجنه، على أن يكون عبدًا خارج أسواره. وبعدها، عاد إلى قريته، وعاش منعزلًا، وكأن العالم قد لفظه. سُحبت منه كل النياشين والأوسمة، وأُزيلت صورته من بانوراما حرب أكتوبر، وأُوقف معاشه المستحق عن نجمة الشرف العسكرية، وعاش العشرين سنة الأخيرة من حياته على إيرادات قطعة أرض ورثها عن والده، وكأنها بقايا كرامة يحاول أن يحافظ عليها في زمن النكران.ولكن، في خضم هذا الظلم، وفي غياهب النسيان، لم يفقد الشاذلي إيمانه بالوطن، ففي مذكراته، قال بكلمات تفيض بالثقة: "أنا واثق من أن مصر سوف تكرمني في يوم من الأيام بعد أن تعرف حقائق وأسرار حرب أكتوبر." وكأنها نبوءة، أو وعد من بطل لوطن، أو إيمان راسخ بأن الحق لا يموت. وها هي الأيام تمضي، وتفوت السنون، ويأتي التكريم، بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، عادت نجمة سيناء إلى أسرة الفريق الشاذلي، وعادت صورته من جديد لتزين بانوراما حرب أكتوبر، وكأن التاريخ يعيد كتابة نفسه، وينصف بطلًا طالما عانى من الظلم. وفي عام 2012، وبتوصية من وزارة الدفاع، منحت رئاسة الجمهورية قلادة النيل العظمى لاسم الفريق الشاذلي، وكأنها قبلة على جبين بطل، وتكريم لروح عظيمة. واحد من أهم المحاور الجديدة في مصر سُمي باسمه، ومجموعة من دفعات الكليات الحربية تخرجت باسم دفعة الفريق سعد الشاذلي، وكأن الأجيال القادمة ستتعلم من سيرته كيف يكون الإخلاص للوطن، وكيف يكون الصمود في وجه الظلم.رحم الله جنرال مصر، الذي قال عنه موشيه ديان، عدوه اللدود: "قائد عظيم"، ووصفه شارون بأنه "من أذكى العسكريين." شهادة من الأعداء، هي أصدق دليل على عظمة هذا الرجل، الذي عاش بطلًا، ومات مظلومًا، ثم عاد ليُكرم، لتبقى سيرته خالدة، تروي قصة بطلٍ لم يمت، بل عاش في قلوب الأوفياء، وستظل ذكراه منارة للأجيال القادمة.
Comments
Post a Comment