نقل المعرفة: رحلة الروح عبر الأجيال
في صباح باكر، وأنا أتصفح ألبوم العائلة القديم، وقعت عيناي على صورة جدي. كانت يداه تحملان كتابًا عتيقًا، وفي عينيه بريق يروي حكاية أكبر من مجرد كلمات مطبوعة. هنا بدأت رحلتي في فهم معنى حقيقي لنقل المعرفة. كان ذلك الكتاب، كما علمت لاحقاً، نسخة من "إحياء علوم الدين" للإمام الغزالي، يتوارثه أفراد عائلتنا جيلاً بعد جيل، وفي هوامشه تعليقات بخط اليد تحكي قصة تفاعل كل جيل مع المعرفة.
محطات التحدي: عندما يصارع المعنى مع المعلومات
في عصرنا الحالي، نحن نغرق في بحر من المعلومات. تخيل معي: كل دقيقة يتم إنتاج 500 ساعة من محتوى اليوتيوب، و500 مليون تغريدة، وملايين المقالات. وفقاً لتقرير صادر عن معهد ماكينزي العالمي، فإن حجم البيانات المنتجة يتضاعف كل عامين. هذا التدفق الهائل يطرح تحدياً حقيقياً: كيف نميز بين المعرفة الحقيقية والضجيج المعلوماتي؟
يقول الدكتور طه عبد الرحمن في كتابه "سؤال العمل": "المعرفة ليست تراكماً للمعلومات، بل هي تحول في الرؤية وتغير في السلوك." هذه المقولة تلخص جوهر التحدي الذي نواجهه.
التكنولوجيا: سيف ذو حدين
لا أنكر إعجابي بالتكنولوجيا. فهي تشبه السفينة التي تقودنا عبر محيط المعرفة. لكن علينا أن نتذكر دائمًا أن البوصلة الحقيقية هي القيم الإنسانية. في دراسة أجرتها جامعة أكسفورد عام 2023، تبين أن 78% من الطلاب يعتمدون على المصادر الرقمية للمعرفة، لكن 65% منهم يفتقدون مهارات التفكير النقدي اللازمة لتقييم هذه المعلومات.
حكاية شخصية: درس من جدتي
أذكر جيدًا كيف كانت جدتي تروي لي قصص أجدادنا. في إحدى الأمسيات، حدثتني عن كيف واجه جد جدي الجفاف في أرضه، مستخدماً معرفة توارثها عن أسلافه في قراءة النجوم وأنماط الطقس. هذه المعرفة التقليدية، التي تسمى "المعرفة الأصلية" في الأوساط الأكاديمية، تمثل كنزاً معرفياً يستحق التوثيق والحفظ.
التعليم: أكثر من مجرد نقل معلومات
التعليم الحقيقي ليس في حفظ المعلومات، بل في تعليم كيفية التفكير. يشير الباحث التربوي عبد الكريم بكار في كتابه "تجديد الوعي" إلى أن "المعرفة الحقيقية هي التي تغير السلوك وتبني الشخصية." نحتاج لمناهج تعليمية تركز على:
التفكير النقدي والتحليلي: تطوير القدرة على تقييم المعلومات وفهم السياقات المختلفة.
حل المشكلات الإبداعية: تشجيع الابتكار والتفكير خارج الصندوق.
التعاطف والتواصل الإنساني: بناء جسور التفاهم بين الثقافات والأجيال.
الوعي المعرفي: فهم كيفية اكتساب المعرفة وتطبيقها في الحياة العملية.
المعرفة المحلية: كنز مهمل
في دراسة أجرتها اليونسكو عام 2022، تبين أن 60% من المعارف التقليدية في العالم العربي معرضة للاندثار. مشروع "بيت الحكمة 2.0" الذي أطلقته جامعة القاهرة يهدف إلى توثيق وحفظ المعارف التقليدية في مجالات متنوعة مثل الطب الشعبي والزراعة التقليدية وفنون العمارة المحلية.
في قريتنا، على سبيل المثال، يوجد معالج تقليدي يمتلك معرفة فريدة عن النباتات الطبية المحلية، معرفة توارثها عبر خمسة أجيال. هذه المعرفة، التي لم توثق بعد، قد تحمل حلولاً لتحديات طبية معاصرة.
التحديات الكبرى في نقل المعرفة
تواجه عملية نقل المعرفة تحديات متعددة في عصرنا الحالي:
التسارع التكنولوجي: وفقاً لقانون مور، تتضاعف القدرة الحاسوبية كل 18 شهراً، مما يجعل الكثير من المعارف التقنية قصيرة العمر.
الفجوة الرقمية بين الأجيال: تشير إحصائيات الاتحاد الدولي للاتصالات إلى أن 40% من كبار السن في العالم العربي يواجهون صعوبات في التعامل مع التقنيات الحديثة.
ضعف مهارات التواصل المباشر: أظهرت دراسات نفسية حديثة تراجعاً في مهارات التواصل الشخصي لدى الجيل الجديد.
حلول عملية مبتكرة
إنشاء منصات تواصل بين الأجيال: مثل مشروع "حكايات جدتي" الذي أطلقته وزارة الثقافة المصرية لتوثيق القصص والخبرات الحياتية لكبار السن.
تشجيع برامج التعلم المستمر: إطلاق مبادرات مثل "جامعة العمر الثالث" التي تتيح لكبار السن مشاركة خبراتهم مع الأجيال الجديدة.
دعم المبادرات التراثية: تأسيس مراكز توثيق للمعارف التقليدية في كل منطقة.
تعزيز التعليم التفاعلي: دمج التقنيات الحديثة مع أساليب التعليم التقليدية.
رسالة أخيرة: المعرفة روح
في النهاية، المعرفة ليست مجرد معلومات نخزنها في ذاكرة صلبة. إنها روح تنتقل من قلب لقلب، من جيل لجيل. كما يقول المفكر مالك بن نبي: "المعرفة ليست ما نحفظه، بل ما نعيشه ونطبقه ونورثه."
نحن حماة هذه الروح، وعلينا أن نحملها بأمانة وحب. فكل معرفة نحفظها اليوم هي بذرة نزرعها لأجيال المستقبل.
المراجع:
بكار، عبد الكريم (2020). تجديد الوعي. دار السلام للنشر والتوزيع.
تقرير اليونسكو حول المعارف التقليدية (2022).
بن نبي، مالك (2000). مشكلة الثقافة. دار الفكر.
الغزالي، أبو حامد. إحياء علوم الدين.
تقرير معهد ماكينزي العالمي عن البيانات الرقمية (2023).
بقلم: أحمد البدوي
مُتأمل في دروب المعرفة
