السؤال الذي قبلته السماء ورفضته الأرض: قراءة في محنة سقراط

 هل يمكن أن يصبح التفكير جريمةً؟

في دروب أثينا القديمة، كان رجلٌ يمشي حافي القدمين، لا يحمل سيفًا ولا يملك جاهًا أو سلطانًا. لم يكن يُشهر في وجوه الناس سلاحًا، ولم يكن يُهدد أحدًا بالأذى. كل ما كان يحمله هذا الرجل، كل ما كان يُقلق به راحة المدينة، هو سؤال. سؤالٌ بسيط في ظاهره، لكنه عميق في جوهره، حتى غدا كافيًا ليجعل أثينا بأسرها تضيق بوجوده. ذلك الرجل كان سقراط، والسؤال الذي حمله أصبح أخطر من كل أسلحة عصره.

 المرآة التي لا يُحبها أحد

كان سقراط يقترب من الناس واحدًا تلو الآخر: الحرفي في سوقه، والجندي في ثكنته، والشاعر في حلقته، والسياسي في ساحته. يسألهم عن معاني العدل والشجاعة والحرية والخير، تلك المفاهيم التي يتحدثون بها يوميًا بثقة مطلقة. لم يكن يُهاجمهم أو يُحاول إسقاطهم، بل كان يفعل شيئًا أكثر إزعاجًا من ذلك: كان يكشف لهم أنهم يتكلمون أكثر مما يفهمون، وأنهم يرددون كلمات كبيرة دون أن يعرفوا حقيقة ما تعنيه.

أصبح صوت سقراط يشبه المرآة الصادقة التي تُذكّر الإنسان بما يحاول جاهدًا أن ينساه: حقيقة أنه لا يعرف. وهذه المرآة، على صدقها، لم تكن محبوبة. فالناس بطبيعتهم يميلون إلى الراحة التي يمنحها الجهل الواثق، ويهربون من القلق الذي يُحدثه السؤال الصادق. أحبّوا الوهم الذي يُريحهم، وكرهوا الحقيقة التي توقظهم من سباتهم العميق.

 منهج يولد الوعي من رحم الشك

لم يكن سقراط معلمًا بالمعنى التقليدي، ولم يكن يسعى لفرض أفكاره على الآخرين. بل كان يؤمن بأن الحقيقة كامنة في داخل كل إنسان، وأن دوره هو أن يساعد الناس على استنطاق تلك الحقيقة من أعماقهم. كان يطرح سؤالًا يقود إلى شكٍ كريم، وهذا الشك يفتح الباب أمام بحثٍ صادق، والبحث الصادق يُفضي في النهاية إلى وعي متزن وحقيقة راسخة.

هذا الأسلوب، الذي عُرف لاحقًا بالمنهج السقراطي، لم يكن مجرد تقنية للنقاش أو أداة للجدل الفلسفي. بل كان طريقة حياة كاملة، نهجًا في الوجود يقوم على مبادئ بسيطة لكنها ثورية: توقف عن الانسياق الأعمى، اسأل عما تظن أنك تعرفه، راجع قناعاتك باستمرار، ولا تصدّق إلا ما يمس قلبك وعقلك معًا في انسجام تام.

عندما تضيق الأرض وتتسع السماء

في أثينا، ضاقت صدور الناس بسقراط وأسئلته المُزعجة. رأوا في استفساراته المتواصلة هدمًا لاستقرار المجتمع، وتهديدًا للقيم الراسخة. اتهموه بأنه يُشكك الشباب في كل شيء، ويُفسد عقولهم، ويزعزع إيمانهم بالآلهة وبالدولة. وفي النهاية، وفي مشهد مأساوي سيظل محفورًا في ذاكرة البشرية، حكموا عليه بالموت بتهمة إفساد عقول الشباب والكفر بآلهة المدينة.

لكن هنا تكمن المفارقة العميقة والدرس البليغ: الأسئلة ذاتها التي أزعجت أثينا وجعلتها تحكم على سقراط بالموت، لم تكن يومًا مرفوضة عند الخالق سبحانه. بل على العكس تمامًا، فالأنبياء والرسل، وهم في أعلى مقامات الخطاب مع رب العالمين، سألوا دون خوف أو تردد، وكان سؤالهم علامة إيمان لا علامة شك.

إبراهيم عليه السلام، خليل الرحمن، قال بكل أدب وثقة: "رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ". لم يكن هذا شكًا في قدرة الله أو في الإيمان بالبعث، بل كان طلبًا لطمأنينة أعمق، ورغبة في أن يشهد بعينيه ما آمن به قلبه. وموسى عليه السلام، كليم الله، قال في لحظة شوق عارم: "رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ". لم يكن هذا جهلًا بعظمة الله أو تجرؤًا على مقامه، بل كان شوقًا للمعرفة ورغبة في الفهم والرؤية.

والله سبحانه وتعالى، في سعة رحمته وحكمته، لم يُعاقب السؤال قط. لم يُغلق الباب في وجه السائلين، ولم يزجرهم على رغبتهم في المعرفة. بل أجاب وعلّم وفتح للإنسان باب المعرفة على مصراعيه. هنا تتجلى الحقيقة الكبرى: السماء واسعة رحبة للسؤال الصادق، أما العقول المغلقة والقلوب الضيقة فهي التي تضيق بالسؤال وتخشى من الحقيقة.

 جريمة أن ترى نفسك

لم يرتكب سقراط جريمة أخلاقية أو سياسية أو دينية بالمعنى الحقيقي. لم يسرق ولم يقتل ولم يُحرّض على فتنة أو حرب. جريمته الوحيدة، الجريمة التي لم تغفرها له أثينا، كانت أنه جعل الإنسان يرى نفسه على حقيقتها. والنفس البشرية، حين تُواجه حقيقة جهلها وضعفها وتناقضاتها، تغضب وتنكر وترفض وتبحث عن من تُلقي عليه اللوم.

كان في استطاعة سقراط أن يهرب من السجن، فقد عرض عليه أصدقاؤه ذلك وهيأوا له سبل النجاة. كان بإمكانه أن يتراجع عن أفكاره، أو على الأقل أن يتظاهر بالتراجع لينجو بحياته. لكنه اختار طريقًا آخر: اختار أن يموت واقفًا على قدميه، متمسكًا بمبادئه، على أن يعيش منحنيًا منساقًا خلف الخوف والنفاق.

تناول كأس السم بيدين مطمئنتين، وقال لتلاميذه الذين كانوا يبكون حوله كلمات ستبقى خالدة: "قد يقتلون الجسد، لكنهم لن يقتلوا الفكرة أبدًا." وكان محقًا، فسقراط مات منذ أكثر من ألفي عام، لكن فكرته لا تزال حية تتنفس في كل عقل يسأل، وفي كل قلب يبحث عن الحقيقة.

 السؤال: طريق إلى الإيمان لا تهديد له

سقراط يُذكّرنا اليوم بحقيقة بسيطة في لفظها، ثقيلة في معناها: السؤال ليس تهديدًا للإيمان، بل هو الطريق الحقيقي إليه. السؤال الصادق لا يُضعف اليقين، بل يُعمّقه ويُنقّيه من شوائب التقليد الأعمى والوهم المريح.

وإذا كان الخالق جل وعلا، في عظمته وكماله، قد فتح باب السؤال أمام أنبيائه وعباده الصالحين، فلماذا نخشى نحن أن نسأل؟ لماذا نخاف من الحقيقة إذا كنا نؤمن بها؟ لماذا نُغلق أبواب العقل ونحن ندّعي البحث عن النور؟

الحياة التي لا نفحصها، التي لا نسأل عن معانيها وغاياتها وحقائقها، ليست حياة نعيشها حقًا. إنها مجرد رحلة نُساق فيها كالقطيع، دون وعي أو إرادة أو اختيار حقيقي. والإنسان الذي لا يسأل ليس إنسانًا كاملًا، بل هو ظل لإنسان، يتحرك دون أن يعرف لماذا، ويتكلم دون أن يفهم ما يقول، ويعيش دون أن يدرك لماذا يحيا.

في زمن يُحاول فيه كثيرون أن يُسكتوا الأسئلة باسم الاستقرار، وأن يُخرسوا العقول باسم الحفاظ على التقاليد، يقف سقراط شاهدًا على أن الحقيقة لا تخشى السؤال، وأن الإيمان الحقيقي يزداد قوة كلما فُحص وامتُحن. وأن الجريمة الحقيقية ليست في أن نسأل، بل في أن نتوقف عن السؤال.
#الإيمان_والعقل
#السؤال_في_الإسلام
#قصص_الأنبياء
#الحكمة
#التفكر
#العلم_والإيمان
#فلسفة_الحياة
#معنى_الحياة
#الوعي_الذاتي
#البحث_عن_الحقيقة
#المنهج_السقراطي
#فلسفة_السؤال
#الشك_المنهجي
#التفكير_الحر

تعليقات

المشاركات الشائعة