متمرد منذ نشأته


الولد الذي رأى أكثر مما ينبغي
الفصل الأول: تجارة الكلام
كان "آدم" يرى فصله الدراسي كسوقٍ كبير. لم تكن تُباع فيه الخضروات أو الأقمشة، بل بضاعة أثمن وأكثر خداعاً: الكلام. وكان الأستاذ "فريد"، معلم التربية الدينية، هو التاجر الأكثر مهارة. كانت كلماته عن الأمانة والصدق بضاعته الرائجة، يغلفها بصوته العميق ونظراته الموقرة، ويبيعها للتلاميذ مقابل الاحترام والطاعة، ولأولياء الأمور الأثرياء مقابل المال في الدروس الخصوصية.
آدم، من مقعده الأخير الذي يشبه برج المراقبة، كان قد بدأ يدرك أن الأستاذ فريد لا يؤمن ببضاعته حقاً. لقد كانت مجرد مهنة، وسيلة لتحصيل رزقه. لاحظ كيف يلمع صوته حين يخاطب "طارق" ابن الطبيب، وكيف يبهت ويجفّ حين يتحدث مع "ياسين" ابن بواب المدرسة. العدل الذي يتحدث عنه الأستاذ كان سلعة لها ثمن، لا ينالها إلا من يدفع.
وجاء يوم الامتحان ليُعرّي السوق على حقيقته. تظاهر آدم بأنه نسي قلمه بعد تسليم الأوراق، وعاد ليختلس نظرة من شق الباب. رأى الأستاذ فريد يمسك بالقلم الأحمر، لا كمعلم يصحح، بل كتاجر يغش في الميزان ليُرضي زبوناً مهماً. بحركة خبيرة، ملأ الفراغ في ورقة طارق، ضامناً له الدرجة الكاملة.
لم يشعر آدم بالغضب، بل بنوع من البرود الثقيل. لقد أدرك للتو قانوناً أساسياً في عالم الكبار: الذين يدعون إلى الفضيلة بصوتٍ عالٍ هم في الغالب لا يؤمنون بها، بل يقتاتون عليها. إنها مجرد أداة عمل، كالمطرقة في يد النجار.
الفصل الثاني: رجس لم يُدعَ إليه
في طريقه للخروج من المدرسة ذلك اليوم، محمّلاً بخيبة أمله، لفت انتباهه "العم صالح"، عامل النظافة العجوز. كان العم صالح رجلاً قليل الكلام، تفوح منه دائماً رائحة التبغ الرخيص، ويداه متشققتان من العمل الشاق. كان المعلمون يعاملونه بتعالٍ، والطلاب يسخرون من ملابسه الرثة. كان في نظر الجميع مثالاً للإهمال، وربما "الرذيلة" في أبسط صورها.
جلس آدم على سلم خرساني في فناء المدرسة، شارد الذهن. اقترب منه العم صالح وقال بصوته الأجش: "ما بك يا بني؟ هل أثقلوا عليك بالواجبات؟"
هز آدم رأسه نافياً. ثم نظر إلى العامل العجوز وقال بمرارة: "إنهم يكذبون... كلهم يكذبون."
أطفأ العم صالح سيجارته في علبة صفيح قديمة، وجلس بجواره. قال بهدوء: "استمع يا بني. في حياتي هذه، لم أقف يوماً لأخطب في الناس عن النظافة، لكني قضيت عمري أنظف قذارتهم. وهناك من يقضي عمره يخطب عن الطهارة، وهو لا يكف عن تلويث كل شيء يلمسه."
صمت للحظة ثم تابع: "أنا أدخن، وأعلم أنه مضر. لكني لم أقل لأحد يوماً أن التدخين فضيلة. هم يعلمون أن المحاباة حرام، لكنهم يخبرونك أنها عدل."
ضربت كلمات العم صالح البسيطة على وتر حساس في قلب آدم. هذا الرجل، الذي يبدو غارقاً فيما يعتبره المجتمع "رذيلة" صغيرة، لم يدّعُ يوماً أنها فضيلة. كان صادقاً في ضعفه، واضحاً في حقيقته. على النقيض تماماً من الأستاذ فريد الذي يبيع الفضيلة التي لا يملكها.
الفصل الثالث: إسقاط القناع
في حصة التربية الدينية التالية، كان الأستاذ فريد يلقي خطبته المعتادة عن "الحق" و"العدل". كل كلمة كانت تبدو لآدم الآن كعملة مزيفة. لم يعد يرى معلماً، بل بائعاً متجولاً يعرض بضاعته الفاسدة.
عندما رفع آدم يده، لم يكن في صوته تردد، بل ثقة الجراح الذي يوشك أن يزيل ورماً خبيثاً. وقف وقال جملته التي كانت بمثابة حجر ألقي في مياه راكدة: "أستاذ فريد، إذا كان الحق والعدل بهذه الأهمية، فلماذا تختلف قيمة إجاباتنا في الامتحان حسب ما إذا كنا نأخذ دروساً خصوصية عندك أم لا؟"
سقط قناع الأستاذ فريد وتحطم. ظهر تحته وجه رجل عادي، مرتبك، تم ضبطه متلبساً بالغش في تجارته. وبعد صدمة أولى، تحولت عيناه إلى غضب محموم وصرخ: "إلى المدير حالاً!"
بينما كان آدم يسير في الردهة الطويلة نحو مكتب المدير، مرّ بالعم صالح الذي كان يمسح الأرض. لم يتكلما، لكن العامل العجوز رفع رأسه ونظر إلى آدم نظرة فهم عميق، ثم أومأ برأسه إيماءة خفيفة، كأنه يقول: "أنا أفهمك." كانت تلك الإيماءة أثمن عند آدم من كل شهادات التقدير في العالم.
الفصل الرابع: الحقيقة العارية
كانت العاصفة في المنزل متوقعة. والده، الذي يبيع بدوره كلاماً معسولاً لجدته المريضة، لم يستوعب منطق ابنه. لقد اهتم بصورة العائلة، بقناع "الاحترام" الذي يجب أن يرتدوه جميعاً، ولم يهتم بالحقيقة.
في تلك الليلة، جلس آدم في غرفته، لم يكن يشعر بأنه مهزوم، بل بأنه تحرر. لقد فهم أخيراً المعادلة. الأستاذ فريد ووالده والمدير، كلهم تجار. بضاعتهم هي القيم والمبادئ، يبيعونها ليضمنوا مكانتهم وأرزاقهم. أما العم صالح، فهو لا يبيع شيئاً. هو فقط "يعمل". لم يدّع يوماً أنه قديس، ولذلك لم يكن بحاجة للكذب.
أدرك آدم أن الخطر الحقيقي لا يكمن في أولئك الذين يرتكبون الرذيلة ويعترفون بها ضمناً، بل في أولئك الذين حولوا الفضيلة إلى سلعة، وأفرغوها من معناها ليملؤوا بها جيوبهم.
منذ ذلك اليوم، وُلد بداخله متمرد من نوع خاص. متمرد لا يكره القيم، بل يكره المتاجرين بها. متمرد يبحث عن الحقيقة العارية، حتى لو كانت قبيحة، ويزدري الفضيلة المزينة بالأكاذيب. لقد اختار أن يكون مثل العم صالح: صادقاً في حقيقته، على أن يكون مثل الأستاذ فريد: بائعاً ماهراً في سوق النفاق.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اضطراب الوسواس القهري وعلاجه باستخدام العلاج السلوكي المعرفي

السلطان عبد الحميد الثاني ورفضه للمشروع الصهيوني: بين الضغوط الخارجية والصراعات الداخلية

المسجد الٱقصي بين التاريخ والقدسية