السلطان عبد الحميد الثاني ورفضه للمشروع الصهيوني: بين الضغوط الخارجية والصراعات الداخلية
السلطان عبد الحميد الثاني والمشروع الصهيوني: صراع الهوية والسيادة في مواجهة التحديات الكبرى
مقدمة: تحولات القرن التاسع عشر وصعود الحركة الصهيونية
شهد أواخر القرن التاسع عشر تحولات جيوسياسية عميقة في المنطقة العربية والإسلامية، فبينما كانت الدولة العثمانية ترزح تحت وطأة أزمات مالية وسياسية داخلية، تصاعدت ضغوط القوى الاستعمارية الأوروبية. في خضم هذه التحديات، برزت الحركة الصهيونية بقيادة ثيودور هرتزل، الذي سعى بشتى الطرق لإقناع السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بالسماح لليهود بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين. ورغم العروض المالية المغرية التي قُدّمت لسداد ديون الدولة العثمانية، أظهر السلطان رفضًا قاطعًا لهذه الفكرة. غير أن هذا الرفض لم يحل دون وقوع فلسطين تحت السيطرة البريطانية لاحقًا، والتي توجت بصدور وعد بلفور عام 1917، في سياق انهيار الدولة العثمانية المتأثر بالصراعات السياسية الداخلية والتدخلات الخارجية.
موقف السلطان عبد الحميد الثاني الحازم تجاه المشروع الصهيوني
مع تزايد الأعباء الاقتصادية على الدولة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر، رأت الحركة الصهيونية فرصة لاستغلال الوضع والحصول على دعم السلطان عبد الحميد الثاني. في عام 1896، طلب ثيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، لقاءً بالسلطان، مقدمًا عرضًا ماليًا سخيًا للمساعدة في تسديد الديون المتراكمة للدولة، مقابل منح اليهود حق إقامة وطن لهم في فلسطين.
لكن السلطان عبد الحميد الثاني واجه هذا العرض برفض قاطع، وجاء رده الشهير: "لا أستطيع بيع حتى شبر واحد من هذه الأرض؛ فهذه الأرض ليست ملكي بل ملك لأمتي. لقد حصلت الدولة العثمانية على هذه الأراضي بدماء شهدائها، ولن نبيعها إلا بنفس الطريقة".
وعلى الرغم من استمرار محاولات هرتزل المتكررة بين عامي 1896 و1902، لم يتراجع السلطان عن موقفه. بل شدد على عدم السماح بأي هجرة جماعية منظمة لليهود إلى فلسطين، مع إبقاء الباب مفتوحًا فقط للهجرة الفردية المحدودة وتحت رقابة صارمة.
تفكك الدولة العثمانية ومهدت الطريق لوعد بلفور
على الرغم من الثبات في موقف السلطان عبد الحميد الثاني، إلا أن الدولة العثمانية كانت تعاني من ضعف داخلي متصاعد، وهو ما أفضى لاحقًا إلى سقوطها وفتح الباب أمام المشروع الصهيوني. يمكن تلخيص العوامل الرئيسية التي ساهمت في ذلك:
- الصراعات الداخلية والانقلابات السياسية: في عام 1908، أطاحت جمعية "الاتحاد والترقي" بالسلطان عبد الحميد الثاني عبر انقلاب عسكري، وأُجبر على التنازل عن العرش عام 1909. تولى "الاتحاديون" الحكم، وكانوا أكثر مرونة تجاه الاستعمار الأوروبي والهجرة اليهودية إلى فلسطين مقارنة بسياسات السلطان. سمحت الحكومة العثمانية الجديدة بزيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، خاصة بعد إصدار قانون عام 1909 الذي خفف القيود السابقة.
- الحروب والخسائر العسكرية: أضعفت الهزائم المتتالية في حروب البلقان (1912-1913) الدولة العثمانية وكشفت مدى تفككها. كما أن دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى (1914-1918) إلى جانب ألمانيا أدى إلى خسائر فادحة وتفكك شامل للإمبراطورية.
- الضغوط الاستعمارية وتداعياتها: بعد انهيار الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وضعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني بموجب اتفاقية سايكس-بيكو (1916). في عام 1917، أصدرت بريطانيا وعد بلفور، الذي دعم علنًا إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، مستغلة ضعف وغياب السلطة العثمانية.
تأثير الصراعات السياسية الداخلية على انهيار الدولة العثمانية
كان تفكك الدولة العثمانية نتيجة حتمية لعقود من التوترات السياسية الداخلية والصراعات على السلطة. من أبرز هذه العوامل:
- صراع السلطان عبد الحميد مع "الاتحاد والترقي": انقسمت النخبة السياسية بين مؤيدي السلطان والمؤيدين للأفكار القومية والتحديثية لجمعية الاتحاد والترقي، مما أدى إلى صراع داخلي أضر باستقرار الحكم.
- تداعيات انقلاب 1908: أحدث هذا الانقلاب تغييرات جذرية في سياسة الدولة العثمانية، خاصة في التعامل مع القوى الأوروبية والمهاجرين اليهود، حيث أصبحت الحكومة الجديدة أكثر ليونة تجاه بريطانيا والحركة الصهيونية.
- دخول الحرب العالمية الأولى بدون استعداد: أدى دخول العثمانيين الحرب العالمية الأولى دون استعداد كافٍ إلى هزائم كارثية، خاصة بعد ثورة العرب الكبرى (1916)، التي حظيت بدعم بريطاني بهدف تسريع تفكيك الدولة العثمانية.
الخاتمة: دروس من صراع الهوية والسيادة
يُظهر رفض السلطان عبد الحميد الثاني للمشروع الصهيوني، رغم حجم الضغوط المالية والسياسية، مدى تمسكه بالسيادة والأرض. ومع ذلك، لم يتمكن هذا الموقف الحازم من منع التحولات الكبرى التي عصفت بالمنطقة بعد عزله. فقد أدى تفكك الدولة العثمانية، نتيجة تضافر الصراعات السياسية الداخلية والحروب الخارجية، إلى فقدان فلسطين ووقوعها تحت الاستعمار البريطاني، مما مهد الطريق لإصدار وعد بلفور وتداعياته التاريخية. هذا الحدث يبرز بوضوح كيف أن ضعف الحكومات والاضطرابات الداخلية يمكن أن تغير مصائر الأمم بشكل جذري، وهو درس تاريخي لا يزال صداه يتردد في المشهد السياسي العالمي حتى يومنا هذا.
تعليقات
إرسال تعليق